إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه logo شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. اختار بعض العلماء أن وقت الختان في يوم الولادة، وقيل في اليوم السابع، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر فإلى سبع سنين وهو السن الذي يؤمر فيه بالصلاة، فإن من شروط الصلاة الطهارة ولا تتم إلا بالختان، فيستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب.أما وقت الوجوب فهو البلوغ والتكليف، فيجب على من لم يختتن أن يبادر إليه عند البلوغ ما لم يخف على نفسه إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه
shape
شرح الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية
70938 مشاهدة print word pdf
line-top
دين الإسلام هو الدين الحق

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين.
قال رحمه الله تعالى: من أحمد بن تيمية عفا الله عنه إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة، المنتمين إلى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عدي بن مسافر الأموي رحمه الله ومن نحا نحوه؛ وفقهم الله لسلوك سبيله، وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلهم معتصمين بحبله المتين، مهتدين بصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجنبهم طريق أهل الضلال والاعوجاج الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الشرعة والمنهاج؛ حتى يكونوا ممن أعظم عليهم المنة بمتابعة الكتاب والسنة.
سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد:
فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين، وسيد وُلْد آدم صلى الله عليه وسلم، وأكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه زلفى، وأعظمهم عنده درجة؛ محمد عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأنزل عليه الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس؛ فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله، وجعلهم أمة وسطا أي: عدلا وخيارا؛ ولذلك جعلهم شهداء على الناس؛ هداهم لما بعث به رسله جميعا من الدين الذي شرعه لجميع خلقه، ثم خصهم بعد ذلك بما ميزهم به وفضلهم من الشرعة والمنهاج الذي جعله لهم.
الأول: مثل أصول الإيمان وأعلاها وأفضلها هو التوحيد، وهو شهادة أن لا إله إلا الله؛ كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وقال تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ وقال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ .
ومثل الإيمان بجميع كتب الله وجميع رسله؛ كما قال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ومثل قوله تعالى: وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ومثل قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إلى آخرها.
ومثل الإيمان باليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب كما أخبر الله عن إيمان من تقدم من مؤمني الأمم به؛ حيث قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .
ومثل أصول الشرائع كما ذكر في سورة الأنعام والأعراف وسبحان وغيرهن من السور المكية، من أمره بعبادته وحده لا شريك له، وأمره ببر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والعدل في المقال، وتوفية الميزان والمكيال، وإعطاء السائل والمحروم، وتحريم قتل النفس بغير الحق، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتحريم الإثم والبغي بغير الحق، وتحريم الكلام في الدين بغير علم.
مع ما يدخل في التوحيد من إخلاص الدين لله، والتوكل على الله، والرجاء لرحمة الله، والخوف من الله، والصبر لحكم الله، والقيام بأمر الله، وأن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد من أهله وماله والناس أجمعين؛ إلى غير ذلك من أصول الإيمان التي أنزل الله ذكرها في مواضع من القرآن في السور المكية وبعض المدنية.


سمعنا هذه الرسالة، سميت الوصية الكبرى؛ وذلك لأنها أكبر من التي بعدها، وهي كما سمعنا رسالة أرسلها إلى بعض تلامذته، وبعض أحبابه، وخص أتباع عدي بن مسافر الأموي وعدي عالم من العلماء، ولو كان مذكورا عنه أنه دخل في بعض أهل الطرق، ولكن طريقته التي سلكها من طرق المتصوفة لم تخرجه إلى طرق الصوفية الذين ابتدعوا وانتحلوا نحلا غريبة؛ بل هو من أهل السنة ومن العاملين بها.
قد ذكره شيخ الإسلام أيضا في بعض كتبه وبعض رسائله، وأثنى عليه، وكان له أتباع ولكن أتباعه انتحلوا نحلا وابتدعوا بدعا، وتكلم فيهم شيخ الإسلام لما كان في مصر ولكنه لما تكلم فيهم رفعوا بأمره إلى السلطان في مصر مما كان سببا في سجنه رحمه الله في مصر فهو كتب هذه النصيحة لهم، ولعله كتبها في مصر ؛ لتواجدهم في مصر بكثرة في ذلك الزمان.
بدأها بالثناء عليهم؛ حثَّهم على أن يكونوا من أهل الخير والصلاح، والدعاء لهم بالاستقامة وبالثبات على الإسلام، والدعاء لهم بأن يكونوا من المهتدين ومن المتمسكين بالصراط المستقيم، ومن الذين هداهم الله تعالى وأنعم عليهم، وجعلهم من المُنعم عليهم الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ؛ يذكرهم بنعم الله تعالى وبالمنعم عليهم الذين يستحقون أن نسأل الله أن يجعلنا من أتباعهم أو منهم، وهم أهل النعمة الذين قال الله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ .
وكذلك أيضا ذكرهم بعد ذلك بما يجب أن يُبدأ به من الثناء على الله تعالى بما هو أهله، ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وعلى صحابته وعلى تابعيهم، فإنه أهل لذلك؛ كما أمرنا الله تعالى بذلك.
وذكرهم أيضا بما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم أن الله بعثه بالهدى ودين الحق؛ فمن اتبعه فإنه من أهل الهدى أي: من المهتدين. كل من حقق اتباعه فإنا نقول له: أنت من أهل الهدى. وأما من حاد عنه فإنا نقول له: أنت من أهل الضلال؛ فليس هناك إلا مهتد أو ضال. بعثه الله بالهدى.
والمهتدي هو الذي يسير على طريق مستقيم، والضال هو الذي يضيع ويتيه ويسلك طريقا معوجا يؤدي به إلى الجحيم، يؤدي به إلى أن يضل سواء السبيل.
ودين الحق يدل على أنه كله حق؛ الدين الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم سواء ما يتعلق بالعقائد، أو ما يتعلق بالفروع والأعمال، فهو دين الحق. يدل على أن الأديان التي غيره كدين المشركين واليهود والنصارى والمجوس أنها أديان باطلة، فليس هناك إلا دين حق ودين باطل.
يقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وصدق الله؛ أظهره الله على الدين كله حتى عَمَر أكثر من ثلاثة أرباع الأرض، ووصل إلى الشرق والغرب، وعرفه أو سمع به جميع أهل الأرض؛ هكذا أظهره الله.

line-bottom